سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قلت: {هارون}: مفعول أول، و{وزيرًا}: مفعول ثان، قُدّم؛ اعتناء بشأن الوزارة، و{لِي}: صلة، لا جعل، أو متعلق بمحذوف؛ حال من {وزيرًا}؛ لأنه صفة له في الأصل. و{من أهلي}: إما صفة وزيرًا، أو صلة لا جعل، وقيل: إن {لي وزيرًا}: مفعولاً اجعل، و{هارون}: عطف بيان لوزير. و{أخي} في الوجهين: بدل من هارون، أو عطف بيان آخر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيه موسى عليه السلام: {اذهبْ إِلى فرعونَ} بما رأيته من الآيات الكبرى. وادعه إلى عبادتي وحدي، وحذره من نقمتي، {إِنه طغى} أي: جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. {قال} موسى عليه السلام مستعينًا بربه عزّ وجلّ: {ربِّ اشرح لي صدري} أي: وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة، {ويسِّرْ لي أمري} أي: سهِّله حتى لا يصعب عليَّ شيء أقصده. والجملة استئنافية بيانية، كأن سائلاً قال: فماذا قال عليه السلام، حين أُمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير؟ فقيل: قال رب اشرح لي صدري... إلخ.
كأنه، لما أُمر بهذا الخطاب الجليل، تضرع إلى ربه الجليل، وأظهر عجزه وضعفه، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره، ويَفْسَح قلبه، ويجعله عليمًا بشؤون الناس وأحوالهم، حليمًا صفوحًا عنهم، ليلتقي ما عسى أن يرد عليه من الشدائد والمكاره، بجميل الصبر وحسن الثبات، فيلقاها بصدر فسيح، وجأش رابط، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها، وأصعب الخطوب وأهولها بتيسير الأسباب ورفع الموانع. وفي زيادة كلمة {لي}، مع انتظام الكلام بدونها، تأكيد لطلب الشرح والتيسير؛ بإبهام المشروح والميسّر أولاً، ثم تفسيرهما ثانيًا، وفي تقديمهما وتكريرهما: إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما.
ثم قال: {واحْلُلْ} أي: امشط وافسح {عقدة من لساني}، رُوي أنه كان في لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه في صغره. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم، فلطمه ونتف لحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: هذا عدو لي، فقالت آسية: على رسلك، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، ثم جاءت بطستين في أحدهما الجمر، وفي الآخر الياقوت، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه، فبقيت له رتة في لسانه، واختلف في زوال العقدة بكمالها؛ فمن قال به تمسك بقوله تعالى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى}، ومن لم يقل به احتج بقول: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القَصَص: 34]، وقوله تعالى: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزّخرُف: 52].
وأجاب عن الأول: بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام، فخفف بعضها لدعائه، لا جميعها، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله: {من لساني} أي: عقدة كائنة من عُقد لساني، {يفقهوا قولي} أي: إن تحلل عقدة لساني يفقهوا قولي.
{واجعل لي وزيرًا} أي: مُعينًا ومُقويًا {مِنْ أهلي هارونَ أخي}؛ ليعينني على تحمل ما كلفتني به من أعباء التبليغ. {أُشدد به أزري} أي: قِّ به ظهري، {وأَشركه في أمري}؛ واجعله شريكاً لي في أمر الرسالة، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي، {كي نُسبحك كثيرًا}، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة، من قوله: {واجعل لي وزيرًا...} إلخ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب في دوامهما وتكثيرهما. وفي الحديث: «يد الله مع الجماعة»، ولذلك ورد الترغيب في الاجتماع على الذكر: والجمع في الصلاة؛ ليقوى الضعيف بالقوي، والكسلان بالنشيط، وقيل: المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة، لأنه هو الذي يختلف في حالتي التعدد والانفراد، فإن كُلاًّ منهما يصدر منه، بتأييد الآخر، من إظهار الحق، ما لا يصدر منه حال الانفراد. والأول أظهر.
و{كثيرًا}: وصف لمصدر أو زمن محذوف، أي: ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك، تنزيهًا كثيرًا، أو زمنًا كثيرًا، ومن جملة ذلك: ما يدعيه فرعونُ الطاغية، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك في الألوهية. {ونذكُرَك}؛ بأن نصِفك بما يليق بك من صفات الكمال، ذكرًا {كثيرًا إِنكَ كنت بنا بَصِيرًا} أي: عالمًا بأحوالنا، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة، و{بنا}: متعلق ببصيرًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين، وألقيت عصاك بوادي البيْن، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك، إنه طغى عليك، حيث حجبك عن شعود ربك، فلا حجاب بينك وبين ربك، إلا حِجاب نفسك، ووقوفك مع شهود حسك، فهو أكبر الفراعين في حقك، فاهدم وجوده، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك، وقل: اللهم اشرح لي صدري، ووسعه لمعرفتك، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني، حتى لا أعقد إلا على محبتك، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك، كما قال الشاعر:
فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم *** وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري
واجعل لي وزيرًا من أهلي، وهو شيخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، حتى يتوجه بكلية همته إلى سري، كي ننزهك تنزيهًا كثيرًا، بحيث لا نرى معك غيرك، ونذكرك كثيرًا، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر، إنك كنت بنا بصيرًا. قال الورتجبي: قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون...} إلخ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة، سأل من الحق شرح الصدر، وإطلاق اللسان، وتيسير الأمر، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم.
ثم قال: فطلب قوةَ الإلهية وتمكينًا قادريًا بقوله: {ربِّ اشرح لي صدري}، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله، وحق الله في العبودية مقام امتحان، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل، فخاف من ذلك، وسأل شرح الصدر، أي: إذا كنتُ في غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة، اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة، حتى لا أكون محجوبًا بها عنك. ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه، كيف أخبر عن ذلك الغين، وشكى من صحبة الأضداد في أداء الرسالة، بقوله: «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة». اهـ. وفيه مقال، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار، فتأمله. والله تعالى أعلم.


قلت: {مرة}: منصوب على الظرفية الزمانية، وأصله: فعلة، من المرور، اسم للمرور الواحد، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد أمثاله، ويقرب منها الكرة والرجعة. و{إِذْ}: ظرف لمننّا، و{أنِ اقذفيه}: مفسرة، أو مصدرية، و{يأخذه}: جواب {أن اقذفيه}. و{لتُصنع}: متعلق بألقيتُ، عطف على علة مضمرة، أي: ليتعطف عليك ولتربى على حفظي ورعايتي. و{إذ تمشي}: ظرف {لتصنع} على أن المراد وقت مشيها إلى بيت فرعون، وما يترتب عليه من القول والرجع إلى أمه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قال} الله تعالى لموسى عليه السلام: {قد أُوتيتَ سُؤْلك} أي: أعطيت مسؤولك، وبلغنا لك مأمولك في كل ما طبلت منا. والإيتاء، هنا، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها، وإن كان وقوع بعضها مستقبلاً، ولذلك قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القَصَص: 35]، وإعادة النداء في قوله: {يا موسى} تشريفًا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب.
ثم ذكَّره بنعمة أخرى قد سلفت، فقال: {ولقد مَنَنَّا عليك مرة أخرى} قبل أن يكون منك لنا طلب، فكيف لا نجيبك بعد الطلب؟ وتلك المنة: {إِذْ أوحينا إِلى أمك} حين تحيرت في أمرك، وخافت عليك من عدوك، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم- عليهما السلام- فقلنا لها: {أنِ اقْذِفيه في التابوت} أي: ضعيه فيه، وأغلقي عليه حتى لا يصل الماء عليه، {فاقذفيه في اليمِّ} أي: ألقيه في البحر بتابوته، {فليُلقَه اليمُّ بالساحل} أي: فسيرميه البحرُ بالساحل، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرًا واجب الوقوع؛ لتعلُق الإرادة الربانية به، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه، ذو تمييز، مطيع، فإنْ يُلْقه {يأْخُذُه عدوٌ لي وعدوٌ له} وهو فرعون. ولا تخافي عليه؛ {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القَصَص: 7]. وتكرير عداوته والتصريح بها؛ للإشعار بأن عداوته له، مع تحققها، لا تضره، بل تؤدي إلى محبته، لأن الأمر بما فيه الهلاك؛ من القذف في البحر، ووقوعه في يد العدو، مشعر بأن هناك ألطافًا خفية، ومننًا كامنة مندرجة تحت قهر صوري.
وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ، بل ما يقابل الوسط، وهو ما يلي الساحل من البحر، حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون، لِمَا رُوي أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا، ووضعته فيه، ثم قيَّرته وألقته في اليم. وقيل: كان التابوت من البردى، صنعته أمه. وقال مقاتل: صنعه لها رجل مؤمن اسمه حزقيل، ثم طلته بالقار- أي: الزفت- وألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فدفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسًا ثمَّ مع آسية بنة مزاحم، فأمر به فأُخرج، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجهًا، فأحبه فرعون حبًا شديدًا لا يكاد يتمالك الصبر عنه، وذلك قوله تعالى: {وألقيتُ عليك محبةً مني}، قال ابن عباس: «أحبه وحبَّبَه إلى خلقه».
وقال قتادة: ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلاَّ عشقه، أي: وألقيتُ عليك محبة عظيمة كائنة مني، قد زرعت في القلوب، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، ولذلك أحبك عدو الله وأهله، وذلك ليتعطف عليك.
{ولتُصنع على عيني} أي: ولتربّى بالحنو والشفقة، وتغذى بمرأى مني، مصحوبًا برعايتي وحفظي، في أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك: {إِذ تمشي أختك} تتبع تابوتك، فلما أُخرجتَ التمسوا لك المراضع، {فتقولُ} لفرعون وآسية، حين رأتهما يَطْلُبَانِ له مُرضعة يقبل ثديها، وكان لا يقبل ثديًا. وصيغة المضارع في الفعلين؛ لحكاية الحال الماضية، والأصل: إذ مشت فقالت: {هل أدلُّكم على مَن يكفله}؟ يضمه إلى نفسه ويربيه، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. رُوِيَ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلامًا في النيل لا يرتضي ثدي امرأة، واضطروا إلى تتبع النساء، فخرجت أختُه مريم لتتعرف خبره، فجاءت متنكرة، فقالت ما قالت، وقالوا: نعم، فجاءت بأمه فقبِل ثديها.
قال تعالى: {فرَجَعْناك إِلى أمك}؛ وفاء بعهدنا، {كي تقرَّ عينُها} بلقائك، {ولا تحزن} أي: ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك، {وقتلتَ} بعد ذلك {نفسًا}، وهي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه. قال كعب: كان إذ ذاك ابن ثنتي عشرة سنة، {فنجيناك من الغَمِّ} أي: غم قتله، خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة، ومن اقتصاص فرعون، بوحينا إليك بالمهاجرة، {وفتناك فتونًا} أي: ابتليناك ابتلاءً عظيمًا، وخلصناك مرة بعد أخرى، حتى صَلَحْتَ للنبوة والرسالة، وهو تحمل ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، ومفارقة الأحباب، والمشي راجلاً، وفقد الزاد، بعد ما خلصه من الذبح، ثم من البحر، ثم من القصاص بالقتل. وسُئل عنها ابن عباس، فقال: خلَّصناك من محنة بعد محنة، ولد في عام كان يقتل فيه الغلمان، فهذه فتنة، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيًا، وأجَرَّ نَفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، فكل واحدة من هذه فتنة. اهـ. لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون؛ لأن المراد: ما وقع له قبل وصوله إلى مدين، بدليل قوله تعالى: {فلبثتَ سنينَ في أهل مَدْيَنَ}، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين، أي: لبثت عشر سنين في أهل مدين.
وقال وَهْب: لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له.
وأشار باللبث في مدين، دون الوصول إليها، إلى ما أصابه في تضاعيفها، من فنون الشدائد والمكاره، التي كل واحد منها فتنة. و {مدين}: بلدة شعيب عليه السلام، على ثماني مراحل من مصر، ولم تبلغها مملكة فرعون، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أو يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه.
{ثم جئتَ} إلى المكان الذي آنستَ فيه النار، ورأيتَ فيه الخوارق، وخُصصتَ فيه بالرسالة، {على قَدَرٍ} قدرته لك في الأزل، ووقت عينته لك، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر، غير متقدم ولا متأخر، وقيل: على مقدار من الزمان، يُوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. {واصْطنعتُكَ لنفسي} أي: اختصصتك بالرسالة والمحبة والمناجاة، وهو تذكير لقوله: {وأنا اخترتك}، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه، حسبما طلب، بعد تذكيره المنن السالفة، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: {وفتناك} إلى تاء المتكلم؛ لمناسبتها للنفس؛ فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين، فقذفناك في تابوت الإسلام، ثم في نهر الإيمان، ثم رميناك في بحر العرفان، وألقينا عليك محبة منا، فأحببناك وأحببتنا، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا، فتربيت في حفظنا ورعايتنا، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان، في طلب تحقيق العرفان، رددناك إليهم بعد التمكين، لتنهضهم إلى الله، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك، فنجيناك من غم الحجاب، وأخرجناك من سجن الأكوان، إلى فضاء الشهود والعيان، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا، فتنة الفقر، ثم فتنة الذل، ثم فتنة هجر الأوطان، حتى تخلصت من حبس الأكوان، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك، ووقت عيناه لفتحك، فاصطنعتك لنفسي، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي، من غير حول منك ولا قوة، فعِنايتنا فيك سابقة، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال، كما في الحكم. وأنشدوا:
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسبْته *** سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بِشَئ يُعَلَّلُ
وقال آخر:
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى *** بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ *** تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ *** تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ *** فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي *** أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ


يقول الحقّ جلّ جلاله: لسيدنا موسى عليه السلام: {اذهب أنت وأخوك} أي: ليذهب معك أخوك {بآياتي}: بمعجزاتي التي أريتكَهَا، من اليد والعصا، فإنهما وإن كانتا اثنتين، لكن في كل واحدة منهما آيات، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا: آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا: آية، وسرعة حركته، مع عِظَمِ جرمه: آية، وكذلك اليد؛ فإنَّ بياضها في نفسه آية، وشعاعها آية، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية. والباء للمصاحبة، أي: اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا، مستمسكَيْنِ بها، {ولا تَنِيَا}: لا تفترا ولا تقصرا {في ذكري} عند تبليغ رسالتي، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري، بما يليق بحالكما؛ من ذكر لسان أو تفكر أو شهود، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري، حتى لا تكونا فاترين في عيني.
{اذهبَا إِلى فرعون إِنه طغى}: تجبر وعلا. ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي، وإنما جمعهما؛ تغليبًا. رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى- عليهما السلام-، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه.
{فقولا له قولاً لينًا}؛ لأنَّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. قال ابن عباس: أي: لا تعنفا في قولكما. وقيل: القول اللين: {هل لك إِلى أن تزكى...} إلخ، ويعارضه قوله بعد: {فقولا إِنا رسولا ربك} وقيل: كنِّياه، وكان له ثلاثة كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة. وقيل: عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت، وقيل: اللطافة في القول؛ فإنه رباك وأحسن تربيتك، وله عليك حق الأبوة، {لعله يتذكَّر} بما بلغتماه من ذكر، ويرغب فيما رغبتماه فيه، {أو يخشى} عقابي.
ومحل الجملة: النصب على الحال من ضمير التثنية، أي: فقولا له قولاً لينًا، رَاجِيَيْنِ تذكرته، أي: باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه. وفائدة هذا الإبهام: الحَثُّ على المبالغة في وعظه. هذا جواب سيبويه عن الإشكال، وهو أنه تعالى عَلِمَ أنه لا يؤمن، وقال: {لعله يتذكَّر}، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون، أي: اذهبا على رجائكما. وقال الوراق: قد تذكر حين ألجمه الغرق. وقال الزجاج: خاطبهم بما يعقلون. قلت: كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يكشف في هذه الدار، وهو من أسرار الحقيقة، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة، والله تعالى أعلم. وجدوى إرسالهما إليه، مع العلم بإحالته، إلزام الحجة وقطع المعذرة.
{قالا ربنا إِننا نخاف أن يَفْرُطَ علينا} أي: يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة. وهو من فَرطَ إذا تقدم، ومنه: الفارط، للوليد الذي مات صغيرًا.
وقرئ بضم الياء، من أفرط إذا حَمله على العجلة، أي: نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما، على المعاجلة والعقاب، {أو أن يطغى}؛ يزداد طغيانًا، كأن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لكمال جرأته وقساوته، وإظهار {أن}؛ لإظهار كمال الاعتناء بالأمر، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل، وتبعية هارون عليه السلام، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما، فحكى الله قولهما عند نزول الآية، كما في قوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51]، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد؛ لاستحالة جمعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم في الخطاب؟
{قال} تعالى لهما: {لا تخافا}، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل: قال: لا تخافا ما توهمتما من الأمرين، {إِنني معكما} بحفظي ورعايتي ونصري ومعونتي، {أسمعُ وأرى} ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل في كل حال ما يليق بها؛ من دفع ضر وشر، وجلب نفع وخير.
{فأتياهُ}، أمر بإتيانه، الذي هو عبارة عن الوصول إليه، بعد ما أمر بالذهاب إليه، فلا تكرار، {فقولا} له: {إِنّا لاسولا ربك} إليك، أمر بذلك من أول الأمر، ليعرف الطاغية شأنهما، ويبني جوابه على ذلك، {فأرسِلْ معنا بني إِسرائيل} أي: أطلقهم من الأسر والقهر، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام، بدليل قوله: {ولا تعذِّبْهم} بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة، من الحفر ونقل الأحجار، وضرب اللبن والطين، وبناء المدائن، وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده، وتسريح بني إسرائيل. رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة ولملك الدائم، أعجبه، فقال: حتى أستشير هامان، وكان غائبًا، فقَدِم، فأخبره، فقال هامان: قد كنتُ أرى لك عقلاً، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى: {قد جئناك بآيةِ من ربك}، قال فرعون: وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب منها، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت: والذي يظهر من سورة الشعراء- بل هو صريح فيها- أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت في اللفظ، هنا؛ لأن المراد إثبات الحجة بصحة الرسالة، لا تَعدد الآية، وكذلك قوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عِمرَان: 49]، {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشُّعَرَاء: 30]، وأما قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعرَاف: 106]؛ فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له: {والسلامُ على مَن اتبعَ الهُدى} أي: وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين، على من اتبع الهدى، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، دون من اتبع الغي والهوى، وفيه من الترغيب، في اتباعها على ألطف وجه، ما لا يخفى. {إِنا قد أُوحي إِلينا} من جهة ربنا، {أنَّ العذابَ} الدنيوي والأخروي {على مَن كذَّب} بآيات الله {وتولى} أي: أعرض عن قبولها، وفيه من التلطف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله، ولا تذكير العباد عن شهود الله، كما قال الله تعالى: {ولا تنيا في ذكري} أي: ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال، وليدعوهم إلى أسهل الخلال، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]؛ فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه، يحفظه ويرعاه، ويسمعه ويراه، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه، فقد بلغ ما عليه، وليقل بلسان الحال أو المقال: {والسلام على من اتبع الهدى}. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8